تابع لكلام الشيخ
أما استدلال تقي الدين السبكي بما يوميء أن ثمّة إجماعا قديما من الصحابة على اعتبار اختلاف المطالع فلم يرد ما يثبته، إذ لم ينقله إلينا أهل التواتر ولا أهل الآحاد، وكلا القسمين يحتاج إلى النظر من جهة النقل وثبوته، ومن جهة نوع الإجماع ومرتبته، لكن الإجماع المذكور ما هو في الواقع سوى استدلال عقلي على الإجماع بطريق اللزوم، وهذا الاستنتاج العقلي لا يقوى على مقابلة النصوص الثابتة، فضلا عن أنه لو كان ثابتا منعقدا لما اختلف الفقهاء بعده في هذه المسألة اختلافا ظاهرا، وجمهورهم على خلافه .
ولو سلمنا صحته وسلامة نقله لكان محمولا على الاحتمال الأخير توفيقا بين الأدلة ودفعا للتعارض جريا على قاعدة:" الجمع أولى من الترجيح" .
أما الاستدلال بالإجماع الذي نقله ابن عبد البر رحمه الله في عدم مراعاة الرؤية فيما أخر من البلدان كالأندلس من خراسان، وكذلك كل بلد له رؤيته إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين(١٣) ، فقد تعقب الشوكاني دعوى الإجماع في "النيل"(١٤) بقوله: <ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول - أي لزوم الرؤية للجميع- خلاف الإجماع، قال: لأنهم قد أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان كخراسان والأندلس، وذلك لأن الإجماع لا يتمّ والمخالف هذه الجماعة" أي الجماعة المذكورة في" نيل الأوطار>.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد حمل كلام ابن عبد البر على وجه حسن وهو عند التعذر من تبليغ خبر رؤية أهل الشرق لأهل الغرب وخاصة إذا كان الخبر لا يصل إلا بعد شهر، قال رحمه الله تعالى(١٥): <فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته) فمن بلغه أنه رُئي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلا، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيها إلا بعد شهر فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن التي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر فإنها محل الاعتبار>.
هذا وأما قياس مطلع القمر على مطلع الشمس فهو قياس مع ظهور الفارق، ذلك لأن مطلع الشمس نسبي بالإجماع أي يكون مشرقها وزوالها ومغربها يختلف باختلاف مواقع الأقطار على الأرض لمواجهة الشمس للأرض مباشرة، حيث تقابلها يوميا بالتدريج بينما ولادة القمر إنما تكون على وضع كوني مطلق، أي لا يختلف باختلاف الأقطار، ولا يتأثر باختلاف أقاليم الأرض قربا وبعدا، ويدل على ذلك ويؤكده ما ثبت فَلَكيا في مدة مطلع القمر من أقصى بلد إسلامي إلى أقصاه في بلد آخر لا تتجاوز تسع ساعات، فلو كانت ولادة القمر أمرا نسبيا كمطلع الشمس لما حصل الاختلاف الشديد بين الأئمة والعلماء، لذلك لا يستوي قياسا إلحاق المطلق بالنسبي في تقرير اختلاف المطالع وتأكيد اعتباره للفارق الظاهر بينهما، كما أن الاستدلال بالمعقول لا سند له من الشرع، وإنما هو استنتاج عقلي محض لا تقويه الأدلة بل تعارضه على ما هو معلوم من اختلاف العلماء وشدة تنازعهم في تقرير ضابط التباعد، وعليه فإنه إذا ثبتت ولادة القمر شرعا بالرؤية أي في أيّ مطلع فقد انعقد الشهر في حق المسلمين جميعا.
هذا والذي يمكن ترجيحه فقها واختياره من مذاهب العلماء هو القول بتوحيد الرؤية الذي يوجب التوافق بين أحكام الشرع وأوضاع الكون، ويتفق مع رغبة الشريعة الإسلامية في وحدة المسلمين واجتماعهم في أداء شعائرهم الدينية، لا سيما في عصرنا هذا حيث إن طرق الاتصال ميسرة ووسائل الإعلام المختلفة متوفرة تجعل البعيد قريبا والصعب سهلا، إذ تمكّن إعلام عموم المخاطَبين مهما اختلفت ديارهم وبلادهم برؤية الهلال في البلد الذي رُئي به شريطة تقييده باشتراك هذه البلدان مع بلد الرؤية بليل أو جزء منه كما هو الشأن في البلاد العربية، أما البلاد النائية التي تزيد مسافتها الزمنية عن يوم بحيث تكون في نهار عندما تكون بقية البلدان الإسلامية في جزء من الليل مما يوجب استحالة تحقق توحيد الرؤية وأداء فريضتهم من الصوم والإفطار في حقهم ذلك اليوم، فإنها تختص برؤيتها استثناء ولا يقاس غيرها عليها بالنظر إلى وضعها الكونيّ الخاص على الكرة الأرضية، عملا بقاعدة أن" ما ثبت على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس".
على أن الميزان المقاصدي يقتضي أنه إذا ثبت عند وليّ أمر المسلمين وإمامهم الأعلى أحد النظرين المُجتهد فيهما وأصدر حكما على وفقه لزم على جميع من تحت ولايته الالتزام بصوم أو إفطار لاعتقاده بأحقيته في اجتهاده -كما تقدم- ولو في خصوص بلد إسلامي، ولا تجوز مخالفته شرعا قولا واحدا درءً للتنازع ودفعا للمفسدة سواء عند من اعتبر المطالع في ثبوت الأهلة أو من نازعه في هذا الاعتبار.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.